الجثجاث

الجثجاث شجرة جميلة تشبه العرفج، معمرة، تنبت في فصل الربيع وتزهر بزهور صفراء من شهر مارس لغاية شهر يونيو. وترتفع الجثجاثة عن الأرض بمقدار 60سم، وهي كثيرة الفروع، كثيرة الأزهار، والأوراق متعاقبة قصيرة ملتصقة بالساق متموجة الحواف مسننة. الأزهار بقطر 1سم بتلاتها قصيرة لا تكاد ترى ووسطها ممتليء وتكون بشكل نصف الكرة ولونها كلون البرتقال. وينبت الجثجاث في الأودية وفي مسايل الماء.
يعتبر الجثجاث من العائلة المركبة Compositae وهو نبات طبي لا ترعاه الإبل أو الغنم إلا مضطرة، ويستخدم كطارد للحشرات، حيث يوضع تحت التمر وفوقه قبل نقله وتخزينه، وكذلك يوضع تحت وسائد النوم لطرد الحشرات.

وقد جاء في لسان العرب:
والجَثْجاثُ: نَبات سُهْليٌّ رَبيعي إِذا أَحَسَّ بالصيف وَلَّى وجَفَّ.
قال أَبو حنيفة: الجَثْجاثُ من أَحرار الشجر، وهو أَخضر، ينبت بالقَيْظ، له زهرة صَفْراء كأَنها زَهْرةُ عَرْفَجةٍ طيبةُ الريح تأْكله الإِبل إِذا لم تجد غيره؛ قال الشاعر:
فما رَوْضَةٌ بالحَزْن طَيِّبةُ الثَّرى يُمُجُّ النَّدَى جَثْجاثُها وعَرارُها
بأَطْيَبَ من فيها، إِذا جِئْتَ طارِقاً وقَدْ أُوقِدَتْ بالمِجْمرِ اللَّدْنِ نارُها
واحدتُه جَثْجاثَةٌ.
وفي حديث قُسِّ بن ساعدة: “وعَرَصاتِ جَثْجاثٍ”.
الجَثْجاثُ: شَجر أَصفرٌ مُرٌّ طَيِّبُ الريح، تَسْتَطِيبُه العربُ وتكثر ذكره في أَشعارها.
وجَثْجَتَ البعيرُ: أَكل الجَثْجاثَ.
وبعيرُ جُثاجِثٌ أَي: ضَخْم.
وشَعَرٌ جُثاجثٌ، بالضم، ونبت جُثاجث أَي: مُلْتَفٌّ.‏
الصورة التالية تبين زهور الجثجاث.

وجاء أيضاً في اللسان:
وفي حديث قُسّ: “في عَرَصات جَثْجاث”.
العَرَصاتُ: جمع عَرْصة، وقيل: هي كل موضع واسع لا بناء فيه.
وورد في موضع آخر من اللسان:
وقيل: الزَّلَفةُ الرَّوْضةُ، ويقال: بالقاف أَيضاً، وكل مُمْتَلئٍ من الماء زلفةٌ، وأَصبحت الأَرضُ زَلَفةً واحدة على التشبيه كما قالوا: أَصبحت قَرْواً واحداً.
وقال أَبو حنيفة: الزَّلَفُ الغديرُ الملآنُ؛ قال الشاعر:
جَثْجاثُها وخُزاماها وثامِرُها هَبائِبٌ تَضْرِبُ النُّغْبانَ والزَّلَفا
الصورة التالية تبين شكل أوراق وزهور الجثجاث.

وورد في القاموس المحيط:
جمع السَّلْمُ: أسْلُمٌ وسِلامٌ، ولَدْغُ الحَيَّةِ، وبالكسر: المُسالِمُ، والصُّلْحُ، ويُفْتَحُ، ويُؤَنَّثُ، والسَّلامُ، والإِسْلامُ. وبالتحريكِ: السَّلَفُ، والاسْتِسْلامُ، وشجرٌ، الواحِدَةُ: بهاءٍ.
قيلَ لأَعرابِيٍّ: السَّلامُ عليكَ. قال: الجَثْجاثُ عليكَ. قيل: ما هذا جوابٌ؟ قال: هُما شَجَرانِ مُرَّانِ، وأنتَ جَعَلْتَ علَيَّ واحِداً، فَجَعَلْتُ عليكَ الآخَرَ.
والصورة التالية تبين أيضاً شكل أوراق وزهور الجثجاث.

وجاء في اللسان:
في ترجمة بصص أَبو زيد: يصَّصَ الجِرْوُ تَيْصِيصاً إِذا فتح عينيه، لغة في جَصَّصَ ويَصَّصَ أَي: فقَحَ، لأَن العرب تجعل الجيم ياء فتقول للشجرة شيَرة وللجَثْجَاث جَثْياث.
وقال الفراء: يَصَّصَ الجِرْوُ تَيْصِيصاً، بالياء والصاد.
قال الأَزهري: وهما لغتان وفيه لغات مذكورة في مواضعها.
قال أبو تمام الطائي وهو حبيب بن أوس بن الحارث الطائي (188 هـ – 231 هـ):
قفْ بالطلولِ الدارساتِ علاثا أمستْ حبالُ قطينهنَّ رثاثا
قسمَ الزمانُ ربوعها بينَ الصبا وقبولها ودبورها أثلاثا
فتأبدتْ من كلَّ مخطفةِ الحشا غيداءِ تكسى يارقاً ورعاثا
كالظبيةِ الأدماءِ صافتْ فارتعتْ زهرَ العرارِ الغضَّ والجثجاثا
حتى إذا ضربَ الخريفُ رواقهُ سافتْ بريرَ أراكةِ وكباثا
وقال جرير:
هلَ أنتمْ عائجونَ بنا لأنا نرى العرصاتِ أواثرِ الخيامِ
نبتتْ بمنبتهِ فطابَ لشمها و نأتْ عنِ الجثجاثِ و القيصومِ
قال رؤبة بن العجاج:
ترمي ذراعيهِ بجثجاثِ السوقْ ضرحاً وقدْ انجدنَ منْ ذاتِ الطوقْ
وقال كثير بن عبدالرحمن الخزاعي (كثير عزة):
وإنّي لأسمو بالوصالِ إلى الّتي يكونُ شفاءً ذكرُها وازديارُها
وإنْ خفيتْ كانتْ لعينيكَ قُرَّةً وإن تُبدُ يوماً لم يعُمَّكَ عارُها
مِنَ الخفراتِ البيضِ لم ترَ شقوةً وفي الحسبِ المحضِ الرّفيعِ نِجارُها
فما روضةٌ بالحَزن طيّبةَ الثَّرى يمُجُّ النَّدى جثجاثُها وعرارُها
بمنخرَقٍ من بطنِ وادٍ كأنّما تلاقتْ بهِ عطّارةٌ وتجارُها
أفيدَ عليها المسكُ حتّى كأنَّها لطيمةُ داريٍّ تفتَّقَ فارُها
بأطيبَ من أردانِ عزّة موهناً وقد أوقدتْ بالمندلِ الرَّطبِ نارُها
هي العيشُ ما لاقتكَ يوماً بودِّها وموتٌ إذا لاقاكَ منها ازورارُها
وقال الصنوبري:
وروضة آزرها طباقها وشثها
واعتمّ في ارجائها جثجاثها ورمثها
واختال في زهر الربيــعِ سهلها ووعثها
للوحش فيها موسمٌ طال لديه لبثها
وقال الصنوبري في قصيدة أخرى:
لستُ من الجثجاثِ والقصيص ولا من الجأبِ ولا النَّحوصِ
ولا من البكر ولا القلوص ولا من القانص والقنيصِ
ولا لطيف الخصر عبل البوص قدني من ذاتِ الحشا الخميصِ

ونذكر قصة قس بن ساعدة الإيادي الذي كان من الموحدين في الجاهلية وقد ورد اسم نبات الجثجاث عندما استقبل النبي وَفْدَ بكر بن وائل الذين قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء في كتاب مجمع الأمثال:
أَبْلَغُ مِنْ قُسٍّ.
هو قُسُّ بن ساعدة بن حُذَافة بن زُهَير ابن إياد بن نِزَار، الإيادي، وكان من حكماء العرب، وأَعْقَلَ من سُمِع به منهم، وهو أول من كَتَب “من فلان إلى فلان” وأول من أَقَرَّ بالبعث من غير علم، وأول من قال “أما بعد” وأول من قال “البينة على مَنْ ادَّعَى واليمينُ عَلَى من أنكر” وقد عُمِّر مائةً وثمانين سنة، قال الأعشى:
وَأَبْلَغُ من قُسِّ وأَجْرَى مِنَ الذي بِذِي الغيل مِنْ خفَّانَ أَصْبَحَ خَادِرَا
وأخبر عامر بن شَرَاحيل الشعبيُّ عن عبد الله بن عباس أن وَفْدَ بكر بن وائل قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فَرَغ من حوائجهم قال: هل فيكم أحد يعرف قُسَّ بن ساعدة الإيادي ؟ قالوا: كلنا نعرفه، قال: فما فَعَلَ ؟ قالوا: هلَكَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأني به على جَمَل أحمر بعُكَاظ قائماً يقول: أيها الناس، اجْتَمِعُوا واسْتَمِعُوا وَعُوا، كل مَنْ عاش مات، وكل مَنْ مات فَاتَ، وكل ما هو آتٍ آت، إن في السماء لَخَبراً، وإن في الأرض لَعِبَراً، مِهَاد مَوْضُوع، وَسَقْف مَرْفوع، وبِحار تَمْوج، وتجارة تَرُوج، ولَيْل دَاجٍ، وسماء ذاتُ أَبْرَاجٍ، أَقْسَمَ قُسٌّ حقا لئن كان في الأرض رِضاً ليكونَنَّ بعده سخط، وإن للّه عَزَّتْ قُدْرته دِيناً هو أَحَبُّ إليه من دينكم الذي أنتم عليه، مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون ؟ أَرَضُوا فأقاموا، أو تُرِكُوا فناموا ؟ ثم أنشد أبو بكر رضي الله عنه شعراً حَفِظه له. انتهى من كتاب مجمع الأمثال. وروى الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أن رحم الله قسا! إنه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم”
ويقول الشهرستاني في كتاب الملل والنحل:
وممن كان يعتقد التوحيد، ويؤمن بيوم الحساب:
قس بن ساعدة الإيادي: قال في مواعظه: كلا ورب الكعبة ليعودن ما باد، ولئن ذهب ليعودن يوما.
وقال أيضا:
كلا بل هو الله إله واحد ليس بمولود ولا والد
وجاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير:
عن ابن عباس قال: قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم:
“ما فعل حليف لكم يقال له قس بن ساعدة الإيادي”. وذكر القصة مطولة.
حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه قال:
كان الجارود بن المعلى بن حنش بن معلى العبدي نصرانياً حسن المعرفة بتفسير الكتب وتأويلها، عالماً بسير الفرس وأقاويلها، بصيراً بالفلسفة والطب، ظاهر الدهاء والأدب، كامل الجمال ذا ثروة ومال، وأنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وافداً في رجال من عبد القيس، ذوي أراء وأسنان وفصاحة وبيان وحجج وبرهان، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وقف بين يديه وأشار إليه، وأنشأ يقول:
يا نبي الهدى أتتك رجال قطعت فدفدا وآلا فآلا
وطوت نحوك الصحاصح تهوي لا تعد الكلال فيك كلالا
كل بهماء قصر الطرف عنها أرقلتها قلاصنا أرقالا
وطوتها العتاق يجمح فيها بكماة كأنجم تتلالا
تبتغي دفع بأس يوم عظيم هائل أوجع القلوب وهالا
ومزادا لمحشر الخلق طرا وفراقا لمن تمادى ضلالا
نحو نور من الإله وبرهان وبر ونعمة أن تنالا
خصك الله يا ابن آمنة الخير بها إذ أتت سجالا سجالا
فاجعل الحظ منك يا حجة الله جزيلا لا حظ خلف أحالا
قال فأدناه النبي صلى الله عليه وسلم وقرب مجلسه وقال له:
“يا جارود لقد تأخر الموعود بك وبقومك”.
فقال الجارود: فداك أبي وأمي أما من تأخر عنك فقد فاته حظه وتلك أعظم حوبة، وأغلظ عقوبة، وما كنت فيمن رآك أو سمع بك فعداك، واتبع سواك، وإني الآن على دين قد علمت به قد جئتك وها أنا تاركه لدينك، أفذلك مما يمحص الذنوب والمآثم والحوب، ويرضى الرب عن المربوب.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“أنا ضامن لك ذلك، وأخلص الآن لله بالوحدانية، ودع عنك دين النصرانية”.
فقال الجارود: فداك أبي وأمي، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك محمد عبده ورسوله.
قال: فأسلم وأسلم معه أناس من قومه، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، وأظهر من إكرامهم ما سروا به وابتهجوا به.
ثم أقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
“أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الإيادي”.
فقال الجارود: فداك أبي وأمي كلنا نعرفه، وإني من بينهم لعالم بخبره، واقف على أمره، كان قس يا رسول الله سبطاً من أسباط العرب، عمر ستمائة سنة، تقفر منها خمسة أعمار في البراري والقفار، يضج بالتسبيح على مثال المسيح، لا يقره قرار، ولا تكنه دار، ولا يستمتع به جار، كان يلبس الأمساح ويفوق السياح، ولا يفتر من رهبانيته يتحسى في سياحته بيض النعام ويأنس بالهوام، ويستمتع بالظلام، يبصر فيعتبر، ويفكر فيختبر.
فصار لذلك واحداً تضرب بحكمته الأمثال، وتكشف به الأهوال، أدرك رأس الحواريين سمعان، وهو أول رجل تأله من العرب، ووحد وأقر وتعبد، وأيقن بالبعث والحساب، وحذر سوء المآب، وأمر بالعمل قبل الفوت، ووعظ بالموت، وسلم بالقضا على السخط والرضا، وزار القبور، وذكر النشور، وندب بالأشعار، وفكر في الأقدار.
وأنبأ عن السماء والنماء، وذكر النجوم وكشف الماء، ووصف البحار وعرف الآثار، وخطب راكباً، ووعظ دائباً، وحذر من الكرب، ومن شدة الغضب، ورسل الرسائل، وذكر كل هائل، وأرغم في خطبه وبين في كتبه، وخوف الدهر، وحذر الأزر، وعظم الأمر، وجنب الكفر، وشوق إلى الحنيفية، ودعا إلى اللاهوتية.
وهو القائل في يوم عكاظ: شرق وغرب، ويتم وحزب، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وإناث وذكور، وبرار وبحور، وحب ونبات، وآباء وأمهات، وجمع وأشتات، وآيات في إثرها آيات، ونور وظلام، ويسر وإعدام، ورب وأصنام.
لقد ضل الأنام، نشوّ مولود، ووأد مفقود، وتربية محصود، وفقير وغني، ومحسن ومسيء، تباً لأرباب الغفلة، ليصلحن العامل عمله، وليفقدن الآمل أمله، كلا بل هو إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وأمات وأحيا، وخلق الذكر والأنثى، رب الآخرة والأولى.
أما بعد: فيا معشر إياد، أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والأجداد؟ وأين العليل والعواد؟ كل له معاد، يقسم قس برب العباد، وساطح المهاد، لتحشرن على الانفراد، في يوم التناد، إذا نفخ في الصور، ونقر في الناقور، وأشرقت الأرض، ووعظ الواعظ، فانتبذ القانط، وأبصر اللاحظ.
فويل لمن صدف عن الحق الأشهر، والنور الأزهر، والعرض الأكبر، في يوم الفصل، وميزان العدل، إذا حكم القدير، وشهد النذير، وبعد النصير، وظهر التقصير، ففريق في الجنة، وفريق في السعير.
وهو القائل:
ذكر القلب من جواه أد كار وليال خلالهن نهار
وسجال هواطل من غمام ثرن ماء وفي جواهن نار
ضوءها يطمس العيون وأرعاد شداد في الخافقين تطار
وقصور مشيدة حوت الخير وأخرى خلت بهن قفار
وجبال شوامخ راسيات وبحار ميهاههن غزار
ونجوم تلوح في ظلم الليل نراها في كل يوم تدار
ثم شمس يحثها قمر الليل وكل متابع موار
وصغير وأشمط وكبير كلهم في الصعيد يوما مزار
وكبير مما يقصر عنه حدسه الخاطر الذي لا يحار
فالذي قد ذكرت دل على الله نفوسا لها هدى واعتبار
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“مهما نسيت فلست أنساه بسوق عكاظ، واقفاً على جمل أحمر يخطب الناس: اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا وقولوا، وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأحياء وأموات، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وضوء وظلام، وليل وأيام، وبر وآثام.
إن في السماء خبراً، وإن في الأرض عبراً، يحار فيهن البصرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحار لا تفور، ومنايا دوان، ودهر خوان، كحد النسطاس، ووزن القسطاس.
أقسم قس قسماً لا كاذباً فيه ولا آثماً، لئن كان في هذا الأمر رضي، ليكونن سخط. ثم قال: أيها الناس إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم هذا الذي أنتم عليه، وهذا زمانه وأوانه. ثم قال: ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟”.
والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض أصحابه فقال: “وأيكم يروي شعره لنا؟”
فقال أبو بكر الصديق: فداك أبي وأمي، أنا شاهد له في ذلك اليوم حيث يقول:
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر
قال: فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخ من عبد القيس عظيم الهامة، طويل القامة، بعيد ما بين المنكبين فقال: فداك أبي وأمي، وأنا رأيت من قس عجباً.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما الذي رأيت يا أخا بني عبد القيس؟”
فقال: خرجت في شبيبتي أربع بعيراً لي فدعني أقفو أثره في تنائف قفاف، ذات ضغابيس وعرصات جثجاث، بين صدور جذعان وغمير حوذان، ومهمه ظلمان، ورصيع ليهقان، فبينا أنا في تلك الفلوات أجول بسبسبها وأرنق فدفدها، إذا أنا بهضبة في نشزاتها أراك كباث مخضوضلة، وأغصانها متهدلة، كأن بريرها حب الفلفل وبواسق أقحوان، وإذا بعين خرارة، وروضة مدهامة، وشجرة عارمة، وإذا أنا بقس بن ساعدة في أصل تلك الشجرة وبيده قضيب.
فدنوت منه، وقلت له: أنعم صباحاً.
فقال: وأنت فنعم صباحك، وقد وردت العين سباع كثيرة فكان كلما ذهب سبع منها يشرب من العين قبل صاحبه، ضربه قس بالقضيب الذي بيده، وقال: اصبر حتى يشرب الذي قبلك، فذعرت من ذلك ذعراً شديداً، ونظر إليّ فقال: لا تخف.
وإذا بقبرين بينهما مسجد، فقلت: ما هذا القبران؟
قال: قبرا أخوين كانا يعبدان الله عز وجل بهذا الموضع، فأنا مقيم بين قبريهما عبد الله حتى ألحق بهما، فقلت له: أفلا تلحق بقومك فتكون معهم في خيرهم، وتباينهم على شرهم؟
فقال لي: ثكلتك أمك، أو ما علمت أن ولد إسماعيل تركوا دين أبيهم، واتبعوا الأضداد، وعظموا الأنداد، ثم أقبل على القبرين وأنشأ يقول:
خليلي هبَّا طالما قد رقدتما أجدكما لا تقضيان كراكما
أرى النوم بين الجلد والعظم منكما كأن الذي يسقي العقار سقاكما
أمن طول نوم لا تجيبان داعياً كأن الذي يسقي العقار سقاكما
ألم تعلما أني بنجران مفرداً وما لي فيه من حبيب سواكما
مقيم على قبريكما لست بارحاً إياب الليالي أو يجيب صداكما
أأبكيكما طول الحياة وما الذي يرد على ذي لوعة أن بكاكما
فلو جعلت نفس لنفس امرئ فدى لجدت بنفسي أن تكون فداكما
كأنكما والموت أقرب غاية بروحي في قبريكما قد أتاكما
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رحم الله قساً أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة واحدة”.
وهذا الحديث غريب جداً من هذا الوجه، وهو مرسل إلا أن يكون الحسن سمعه من الجارود، والله أعلم.
وقد رواه البيهقي، والحافظ أبو القاسم ابن عساكر من وجه آخر من حديث محمد بن عيسى بن محمد بن سعيد.